قصه كامله
لو لم تكن مضطرة لما ارتضت بذلك بديلا حافظت على جمود ملامحها بعدما ألقت نظرة متأملة على الغرفة التي تضم سريرين منفردين وخزانتين مستقلتين بالإضافة إلى طاولة مستديرة ومقعدين خشبيين ومرآة تسريحة ملتصقة بالحائط. حادت ببصرها عن النظر إلى محتوياتها والتفتت مخاطبة في هدوء شبه رسمي السيدة المسئولة عن تسكين المغتربات هنا
ردت السيدة عليها بتشجيع
إن شاءالله تتبسطي فيها البنات هنا كلهم محترمين ومجتهدين وشغالين في وظايف حلوة اللي مدرسة واللي ممرضة وآ...
قاطعتها قبل أن تنهي جملتها قائلة بجمود
أنا بحب الخصوصية فأتمنى محدش يشاركني في الأوضة بعد ما دفعت الدبل فيها.
هزت رأسها في تفهم وقالت
اطمني...
ثم مدت إليها يدها بالمفتاح قائلة ببسمة متسعة
أخذته منها وهي تقول بإيجاز
شكرا.
أكدت عليها مرة أخرى وهي تهم بالانصراف
لو في حاجة ناقصة بلغيني أو سبيلي رسالة مع الأمن تحت.
طيب.
قالت كلمتها وهي تسير معها إلى باب المسكن حيث كانت تتواجد إحدى القاطنات بالاستقبال الصغير. وجهت السيدة حديثها إليها بأسلوبها المرحب
دي زميلتكم تهاني هتقعد معاكو من النهاردة يا نزيهة.
كده أحسن.
أدركت مدى صعوبة الوضع الذي أصبحت عليه حين تساهلت مع الغرباء كل شيء قد بات مهددا وربما تخسر ما تحاول فعله قبل أن تتمه من الأساس لذا كان القرار الصائب من وجهة نظرها
تأكدت من إحكام غلق البرطمان جيدا بعدما عبأته بصنيع يدها المميز من الحلاوة السوداء لتضمن عدم تسرب محتوياته حينما تنقله ثم لفته بكيس بلاستيكي صغير وعقدته من الأعلى قبل أن تضعه في آخر لتتمكن ابنتها من حمله بمفرده. مرة أخرى ألقت عقيلة نظرة مدققة على الحقيبة القماشية التي وضبتها لتتفقد ما ملأتها به فقد أحضرت خصيصا زبدة فلاحي وقطع من الجبن وبعض المخبوزات المنزلية لترسلها مع ابنتها في زيارتها لحماتها. نضح قلب فردوس بالبهجة وهي تتحمس لملاقاة والدة زوجها فإذ برؤياها تشبع توقها للتواصل معه فمنذ أن سافر لم يرسل إليها ولم لمرة واحدة. أصغت بانتباه لتعليماتها وهي تحذرها بإشارة من إصبعها
أومأت برأسها هاتفة في طاعة
حاضر يامه.
شددت عليها مجددا وبنفس اللهجة الصارمة
وما تطوليش عندها يا بخت من زار وخف.
جاء ردها على نفس اللهجة المطيعة
ماشي.
تأهبت فردوس لتتحرك بعدما حملت كل شيء لكن أمها استوقفتها آمرة إياها
وريني نفسك.
أنزلت الحقيبة القماشية من يدها والتفتت تحملق فيها بوجه باسم وهي تسألها
بعد لحظة من الصمت المدقق أخبرتها بملامح جادة
خفي اللي على خدك ده شوية.
اعترضت بشيء من الإلحاح
ما حلو يامه خليه عليا.
حذرتها بغير تساهل
عاوزة حماتك تقول عنك مصدقتي جوزك يسافر واتسابتي
قصف قلبها توجسا مما فاهت به وقالت بلا جدال
معاكي حق.
كده أحسن
أجابتها في حبور
أيوه.. ربنا يصلح حالك ويراضيكي.
مرة ثانية انحنت لتحمل الحقيبة القماشية في يد وكيس الحلاوة السوداء في اليد الأخرى وسارت نحو الباب فلحقت بها والدتها لتعاونها على فتحه وهي لا تزال توصيها
امشي على مهلك وما تتأخريش.
قالت مبتسمة في سعادة
حاضر يامه.
ظلت تتابعها بعينيها وهي تهبط درجات السلم ودعائها لها يصدح
ربنا يسلم طريقك.
خبت نبرة عقيلة إلى حد كبير وهي تنسحب عائدة إلى بيتها
ويهديلك العاصي.
قصدت بجملتها الأخيرة حماة ابنتها المتسلطة فالأخيرة لا تكف عن مضايقتها بمعاملتها المتجافية رغم أن فردوس لم تبد أي سوء لها ومع ذلك
أثرت ألا تثير المتاعب من لا شيء واكتفت بتجنب المواجهة معها قدر المستطاع.
رقص قلبها فرحا وهي تلج إلى مدخل العمارة ذات الأربعة طوابق حيث تقطن بها حماتها صعدت بتمهل حريص على درجات السلم إلى أن بلغت الطابق الأخير تحمست للغاية لمقابلتها اعتقدت أنها ستفرح برؤيتها وتستقبلها بما يليق من ترحاب وحرارة لكن ما حدث كان على عكس ما توهمته بدت فاترة باردة متعالية ومنزعجة من وجودها. نظرت لها شزرا وأشارت لها لتدخل بعدما أمعنت النظر فيما أحضرت معها أولتها ظهرها قائلة بسحنة مقلوبة
مكانش لازما تيجي شايلة ومحملة البيت مليان ومعدنيش حاجة ناقصة.
شعرت بالحرج الشديد من أسلوبها اللاذع ومع ذلك ردت بأدب
ده من بعد خيرك يا حماتي.
حينما استقرت في موضعها فردت ذراعها لتشير نحو الجانب وهي تأمرها
حطيهم جوا في المطبخ.
ظلت محافظة على نقاء بسمتها وهي ترد صاغرة
عينيا.
عندما ولجت إلى داخل المطبخ تفاجأت من كم الأطباق المرصوصة بالحوض وكذلك الأواني غير النظيفة المتكومة بجوار الموقد ففكرت في إبهارها ونيل استحسانها بتقديم العون وتنظيف كل شيء. لم تدخر فردوس وسعها وعكفت في التو على إعادة المطبخ لما كان عليه من نظام ونظافة فشمرت عن ساعديها والتقطت سلك المواعين الصدئ لتستخدمه في دعك الأواني المعدنية قبل أن تغسل الأطباق والصحون بإسفنجة شبه بالية متروكة بإهمال فوق الصنبور. استغرقها ذلك حوالي الربع ساعة فخرجت بعد ذلك منه وهي تجفف يديها في جانبي ثوبها لتخبرها بصوت شبه لاهث
أنا روقتلك كل حاجة.
هزت رأسها دون أن تنطق بكلمة شكر وأمرتها
طب اقعدي هنا عقبال ما أنشر الغسيل...
ثم وضعت يدها خلف ظهرها متأوهة في ألم
ياني يا ضهري.
في التو رفضت نهوضها وصاحت في تصميم
لأ عنك يا حماتي ارتاحي إنتي.
أسرعت نحو الشرفة حيث تركت حماتها كومة الغسيل الرطبة في طبق بلاستيكي عريض فقامت بالتقاط كل قطعة على حدا ونشرتها على الحبل. انهمكت كليا في أداء كل الأعمال المنزلية المنقوصة ملقية على عاتقها بمودة منها مساعدتها فيما لم ينجز على أمل أن تحظى في الأخير على كلمة شكر أو حتى معاملة طيبة جزاء
كله بقى تمام والصالة روقتها.
منحتها والدته نظرة طويلة ناقمة ثم أمرتها وهي تشير برأسها
هاتي السبرتاية واعمليلي قهوة مظبوطة.
أحست بالإحباط لعدم تلقيها التقدير اللازم ورغم ذلك حافظت على ابتسامتها الهادئة وهي ترد في طاعة
حاضر.
جلست عند قدميها ومعها أدوات صنع القهوة أعدت لها فنجانها كما طلبت فارتشفته على مهل وهي تسألها في فظاظة وهي ترمقها من علياها بهذه النظرة القاسېة
ما شيعتيش خبر ليه إنك جاية
مجددا أحست بخيبة الأمل الممزوجة بالحرج تجتاحها قاومت شعورها بالخذلان وأجابتها بتردد
أنا لاقيت نفسي فاضية فقولت أجي أونسك.
تفاجأت بها تهاجمها لفظيا كأنما أجرمت في حقها
وحد قالك إني مقطوعة لا سمح الله!
اتقاء لغضبتها الوشيكة اعتذرت منها دون أن تكون بالفعل مخطئة
مش قصدي بس الدنيا ما بقلهاش طعم من بعد ما سي بدري سافر.
ردت عليها بتحفز وهي تسدد لها لكزة قاسېة في جانب كتفها
حسه في الدنيا ياختي ربنا يحفظلي كل عيالي.
زاد إحساسها بالحرج وهتفت في صوت خاڤت ونظرة کسيرة
يا رب.
فقدت فردوس الرغبة في مشاركتها أي نوع من الحديث خشيت من إثارة ڠضبها بلا سبب فلزمت الصمت وهي تستشعر موجات الحزن المطعمة بالجفاء تموج في داخلها. تنبهت لها عندما خاطبتها في حدية بعد برهة
بقولك إيه أنا رايحة البلد عن قرايبي هفضل هناك فترة فماتجيش تاني مش هتلاقي حد في البيت.
في تلقائية بحتة سألتها مستفهمة
طب هترجعي إمتى
صاحت بها بصوت حانق ومنفعل
هو تحقيق!
انكمشت على نفسها رهبة منها وهتفت مبررة
لأ أنا بس حابة أطل عليكي كل وقت وتاني.
لوحت لها بيدها عندما علقت بعبوس
اطمني مش محتاجالك.
ما إن أنهت فنجان قهوتها حتى هتفت فيها بما يشبه الطرد
يالا على بيتك أنا دماغي تقيلة وعاوزة أريح حبة.
اڼصدمت بتصرفها المهين لها فتأثرت عيناها ولمعت فيهما العبرات قامت ناهضة وهي ترد في خجل شديد
ماشي يا حماتي...
بالكاد لملمت شتات نفسها المتبعثرة وهي تحاول بصعوبة ألا تبكي لتتابع
فوتك بعافية.
لم تضف شيئا ولم تودعها حماتها فبلغت عتبة الباب وانحنت لتنتعل حذائها همت بفتحه لكنها وجدت عوض يسبقها. أطرق الأخير رأسه
حرجا لرؤيتها أمامه ثم قام بتحيتها في تهذيب
السلام عليكم.
بلعت ريقها وقالت بصوت مال للحزن
وعليكم السلام.
استشعر الضيق في نبرتها فقال محاولا تخفيف ما ظن أنها قد تعرضت له في غيابه وهو ينظر تجاه والدته الملازمة دوما لموضع جلوسها
يا أهلا وسهلا بالناس الغاليين اتفضلي.
علقت بصوت مرتعش دون أن تنظر ناحيته
لأ أنا.. كنت نازلة.
أصر عليها محتجا بجدية رغم هدوء نبرته
مايصحش تمشي لوحدك استني أوصلك.
رفضت مجيئه وقالت وهي تتجه للخارج
كتر خيرك المسافة مش بعيدة.
استوقفها بقوله المعاند
ده يبقى عيبة في حقنا...
أشار لها لتنظره بالخارج واستكمل كلامه
استنيني لحظة أعرف الحاجة جوا.
لم تجد بدا من الرفض أمام تصميمه فهتفت في استسلام يائس
طيب.
أسرع عوض متجها إلى والدته ليخبرها باهتمام
هاروح يا أمي أوصل مرات أخويا لبيتها.
اعترضت عليه بوقاحة وهذه النظرة الحاقدة تطل من عينيها
هي ناقصة رجل ما تسيبها تغور لواحدها.
عاتبها بقوله اللين
لا حول ولا قوة إلا بالله دي ضيفة في بيتنا وإكرام الضيف واجب.
يا خويا بلا قرف.
سدد لها نظرة أخرى مليئة باللوم لكنه لم ينطق بشيء بل اتجه عائدا إلى فردوس التي تنتظره بالخارج وهو يفكر مليا في كيفية إرضائها دون أن يشعرها بالحرج.
حين أخبرتها جارتها إجلال بورود اتصال هاتي من ابنتها المقيمة بالخارج هرولت عقيلة مسرعة إلى محل البقال لتتمكن من الحديث إليها في التو مكتفية بوضع الحجاب القماشي على رأسها دون أن تفكر للحظة في تضيع الوقت في تبديل قميصها المنزلي الفضفاض. تأبطت ذراعها كمحاولة منها للاتكاء عليها خلال سيرها المتعجل وهي تهتف بصوت أقرب للهاث
تسلميلي يا إجلال نتعبلك نهار فرحتنا بيكي.
ردت بودية معتادة منها
تسلميلي يا خالتي.
وصلت كلتاهما إلى محل البقال فالتقطت إجلال السماعة السوداء لتناولها إلى عقيلة وهي توجه سؤالها لصاحبه
الخط لسه مفتوح
أجابها وهو يشير برأسه
أيوه.
بيدها المرتجفة أمسكت عقيلة بالسماعة وضعتها على أذنها وصاحت في شوق جارف
ألوو أيوه يا ضنايا.
ردت تهاني بكلمة واحدة عنت الكثير
ماما.
غلبتها دموعها الأمومية فطفرت من حدقتيها وهي تخبرها بعتاب رقيق
وحشني صوتك يهون عليكي أمك المدة دي كلها متسأليش عليها
جاءت نبرتها شبه مهمومة وهي ترد
ڠصب عني كان عندي شوية
مشاكل.
شهقت عقيلة مصډومة ووضعت يدها على صدرها كأنما تلطم عليه وهي تهتف بجزع
وربنا قلبي كان حاسس.
حاولت تهدئتها بقولها
ماتقلقيش كله تمام دلوقتي.
توسلتها بقلب واجل
ما تسيبك من الهم ده كله يا تهاني وتعالي وسط أهلك.
لحظة من الصمت حلت قبل أن تقطعها قائلة
مش هاينفع أنا ورايا حلم عاوزة أحققه.
كادت عقيلة تعترض عليها لولا أن سمعتها تطلب منها
إنتي ادعيلي.
أخبرتها بوجه اكتسب سمات التعاسة
وربنا بدعيلك ليل نهار.
غيرت تهاني من مسار الحوار فسألتها
وفردوس عاملة إيه اتجوزت خلاص
تنهيدة عميقة طردتها أمها من رئتيها قبل أن تجاوبها
كتبنا كتابها مستنين بس جوزها يبعت ياخدها معاه.
ظهر الاستغراب في صوتها عندما تساءلت
ليه هو راح فين
أجابتها وهي تمسح بيدها دموعها المسالة على وجنتيها
سافر العراق بيدور على باب رزق جديد.
أتى تعقيبها